عند التعاطي مع الهموم الثقافية الليبية الأمازيغية وفهمها واستيعاب ضروراتها الثقافية، نستطيع إصدار أحكام مباشرة ضد الثقافة الأخرى السائدة ذات النزعة الإقصائية، وسنفهم على الفور أن ليبيا بحاجة لإصلاح ثقافي شامل. ذلك الإصلاح الثقافي لا يجب أن يفهم نفسه خارج الثقافة الليبية مستخدماً "النظام المعرفي للثقافة العربية"، وإنما عليه أن يتكلم من خلال معطيات التجربة الليبية الخاصة. وقد جاءت هذه المقالة محكومة بالهم الثقافي الليبي الذي يجد نفسه فاعلاً ومنفعلا داخل مناخ الهم الثقافي الليبي الأمازيغي، وليست تعنى بأي أبعاد سياسية تشير لحالة الاستقطاب والتشظي الراهنة التي تمر بها ليبيا.
استطاع أمازيغ ليبيا تحديد خطهم الوطني بوضوح لا يحتمل أي تأويل, رافعين شعار استقلال الوطن، ورافضين في الوقت ذاته المساس بالوحدة الوطنية، رغم عنصرية إخوة الوطن العرب الذين يستكثرون عليهم حتى المطالبة بحقوقهم الثقافية الأصيلة، كدسترة لغتهم وتعلمها وتعليمها لأبنائهم. مثل ذلك الموقف التاريخي الأخلاقي للأمازيغ سيبقى مرجعية وطنية للأجيال القادمة التي من المفترض أن تكون قد نشأت على قيم التعددية الثقافية في إطار الدولة الوطنية.
لقد قاطع الأمازيغ الدستور الليبي المرتقب، ولهم في ذلك كامل الحق، لا سيما بعد الالتفاف عليهم في قضية التمثيل داخل لجنة الستين. ولست أدري! كيف سيكون الدستور دستوراً إن لم يقرر الحقوق الطبيعية لأهم المكونات الثقافية في البلاد.
يأتي مطلب دسترة اللغة الأمازيغية استجابة لحاجات ثقافية، ولا أبالغ إن قلت وحاجات وجودية أيضاً. ذلك أن اللغة تخزن تجارب الشعوب بإخفاقاتها ونجاحاتها وهي في بعدها التاريخي تعتبر أرشيفا للهوية. اللغة بذلك المعنى لا تمثل خصوصية ثقافية فحسب، وإنما ترتبط بمصير هوية، بل ترتبط بمشروع حياة. وهل كانت الحياة إلا لغة ندرك من خلالها طبيعة وجودنا الثقافي في هذا العالم؟ يجب القول إن التعدد لا ينافي مبادئ الوحدة, وإنما يعززها داخل إطار مفهوم حقوق مبدأ المواطنة الذي لا يفاضل بين الناس لحساب الدين أو الجنس أو القومية أو اللغة أو اللون, وإنما يجعلهم سواسية كأسنان المشط أمام طائلة القانون. إن الدعوة لدسترة اللغة الأمازيغية لا يطرحها كمنافس للعربية، وإنما هي دعوة لإحياء الهوية الليبية وبعثها من الغياب. ولا مبرر للخوف من تعدد اللغات والثقافات إلا أن يكون الدافع هو الخوف من انهيار صرح الجهل القائم على ثقافة الصوت الواحد واللون الواحد. وعلينا الوعي بخطورة رفض دسترة اللغة الأمازيغية والالتفاف على ذلك المطلب، لأنه يعتبر مصادرة للوجود الثقافي لمكون أصيل في هذه المنطقة.
تبدو القضية الأمازيغية قضية ثقافية خالصة, لا تحتمل التسييس. وكل الأصوات التي تحاول الترويج لهذا الاتجاه السياسي، إنما تستهدف القضاء على الحركة الثقافية الأمازيغية التي نعول عليها في إنتاج مشروع ثقافي ليبي، يمثل الأساس العميق للانطلاق نحو ثقافة التعددية والنسبية والاختلاف. وبكلمات أخرى؛ إن المشروع الثقافي الليبي الأمازيغي هو مشروع سفر نحو العمق التاريخي الحضاري لهوية هذه الأرض التي استقبلت كل الهجرات التاريخية الوافدة، وكان حقا علينا اليوم أن نحمل بطاقة هوية هذه الأرض الليبية.
لقد أصاب التعريب السياسي القسري هوية هذه المنطقة بشروخ واسعة، بعد أن فُرض عليها التماهي مع العالم العربي السياسي، ووجدت كل الطلائع والحركات الثقافية التي مرت على ليبيا نفسها بين مشروعين إما التعريب أو التغريب, لكنها لم تلتفت أبداً إلى العمق الحضاري في الداخل الليبي.
على ليبيا أن تتخلص من الشعارات العروبية والإسلامية, وتتوجه بالاهتمام نحو شراكة جدية مع دول العالم المغاربي، وأن تلتفت إلى عمقها التاريخي المغاربي، وتعيد ربط هويتها بحوض البحر المتوسط، بدل اللهج خلف دول الخليج التي لم تترك معولاً من معاول الهدم، إلا وأعملته في الحلم الديمقراطي لدول المنطقة. لا سيما ونحن نشترك مع الأخيرة في أهم مكوناتها الثقافية.
وأذهب في القول إلى أننا لن نتمكن من السير نحو التمدن والديمقراطية والعلمنة ما لم يكن الأمازيغ في مقدم تلك الرحلة. ذلك أن تيار التغيير الثقافي الأمازيغي قائم على المرجعية الحضارية في شمال أفريقيا ما قبل "العروبة" و "الإسلام" ولنا في صعود التيار الأمازيغي _ بعد أحداث عام 2002 في المغرب _ الذي طالب بفصل الدين عن الدولة بشكل صريح وشجاع، إسوة ثقافية حسنة للتأكيد على مآلات النجاح التي سيلاقيها التكتل الثقافي خلف المشروع الثقافي الليبي الأمازيغي.
سنبني حصونا منيعة ضد التطرف الديني عبر البحث داخل إرثنا الثقافي التسامحي غير المنقب عنه، ونحن اليوم في مسيس الحاجة أكثر من أي وقت مضى لاستدعاء مفاهيم الثقافات التي شكَّلت ليبيا عندما كانت موئلاً للتعايش الحضاري. زد على ذلك أن المكون الأمازيغي الليبي يمتلك خصوصية فريدة في رؤيته لقضية الدين, وعدم اعتماده على العقل الديني في إنتاج الثقافة هي مزيَّة يجب أن تكون عاملا مساعداً في تحديث مفاهيم الثقافة الليبية بشكل عام. إن ذلك ما سينتقل بالثقافة الليبية لمستوى جديد، تتغير من خلاله مراكز الرؤى لقضية الدين، ومفهوم الوطن والدولة.
إن لم يجهض المشروع الثقافي الأمازيغي عبر السير به في شوارع الحسابات السياسية للأطراف المتصارعة في ليبيا، فإن الأمازيغ أمام فرصة تاريخية وثقافية يستطيعون من خلالها إعادة ليبيا المتوسطية التي فرضت عليها القومية العربية إلى موقعها الحضاري المهم. ولو استطاع رافد المشروع الثقافي الليبي العربي الالتقاء برافد المشروع الثقافي الأمازيغي عبر التوافق والانفتاح، سنتمكن من إنتاج قيم جديدة داخل المجتمع الليبي, ونغير اتجاه النهر الثوري نحو قيم التعددية التي تعتبر أس التعايش الحضاري. وبالتالي فإن الانتصار للهم الثقافي للمكونات الثقافية الليبية الأصيلة هو انتصار لمفهوم الدولة الوطنية.
أخيراً، أتساءل كثيراً عن قدرة الهوية الليبية الهشة على الصمود أكثر وسط عاصفة التغيير، وهل تستطيع الثقافة الليبية العربية - الأمازيغية إنتاج تجربتها الوطنية الخاصة؟ وهل سيستمر الليبي بتجاهل لغة الوشوم التي رسمت الهوية الليبية على ملامح الجدات؟
تبدأ الإجابة عن تلك الأسئلة عندما تنهار الحواجز الثقافية التي اختلقها الإنسان أمام أخيه الإنسان. وعندما نضع أولى الخطوات على طريق الدولة الوطنية التي لا تعرف الناس إلا بأرقامهم الوطنية، ولا تعرف ليبيا إلا باسم ليبيا الليبية.
خليل الحاسي
* مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر أصحابها، ولا تُعبّر بالضرورة عن رأي "هنا صوتك".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق