صاحب فكرة “الكوجيطو” ليس هو ديكارت الفرنسي، كما هو شائع بين الناس، بل هو أوغسطين الأمازيغي.. قد يُعترض على هذا الكلام بأنه مجرد دعاوي “شوڤينية” محفزة بالرغبة في نسبة كل المنجزات الحضارية للذات الحضارية. هذا اعتراض مشروع ولكنه غير صحيح.
أوغسطين الأمازيغي هو صاحب فكرة الكوجيطو وليس ديكارت .. مكتشف هذا المعطى التاريخي الذي قد يفاجئ الكثيرين ليس باحثا أمازيغيا يبحث عما يفتخر به في ثقافته وتاريخه بل باحث وأستاذ جامعي بريطاني متخصص في تاريخ الأفكار يدرس في جامعة نيويورك اسمه ريتشارد سورابجي. لنشرح.
أولاـ ما معنى “الكوجيطو”؟
عادة ما تنسب فكرة “الكوجيطو” للتأمل الثاني لديكارت. ومقتضي هذا التأمل أن الشك في وجودي الشخصي مستحيل، وعلة استحالته أن شكّي في وجودي فكرٌ، وأنني كلما شككت كلما مارست هذا الفكر المتشكك وكلما أثبتُّ وجودي الذاتي.
ثانياـ ما قيمة فكرة “الكوجيطو”؟
لفكرة “الكوجيطو” قيمتان: قيمة نظرية وقيمة عملية.
قيمتها النظرية أنها تجعل “التشككية المطلقة” (التي تشكك في كل شيء بما فيها وجود الذات) فكرة مستحيلة منطقيا. فكلما تشككت في ذاتك، كلما أثبت من خصائصك الذاتية (“الخاصية الذاتية” هي الخاصية التي ينتفي بانتفائها الموصوف) وهي “كونك تفكر”، حتى ما إذا نفيت عن نفسك أنك تفكر، ستنفي عن نفسك أنك تتشكك، مما يوقعك في تناقض واضح.
والقيمة العملية لفكرة “الكوجيطو” أنها تجعل منطلق الفكر وأساسه هو الذات. فتثبت وجود الذات أولا، فوجود العالم، لتنتهي بإثبات موجد الوجود نفسه الذي هو الله. وفي البدء بالذات إعلاء لقيمة الإنسان بصفته فردا مُكرماً خُلق في أحسن تقويم.
كتاب ريتشارد سورباجي
عنوان كتاب السير ريتشارد رستم خاسيدجي سورابجي (المولود عام 1934) هو Self: Ancient and Modern Insights about Individuality, Life, and Death ، وهو صادر عن مطبوعات جامعة شيكاڭو عام 2006 .يتناول سورابجي موضوع الكوجيطو الأوغسطيني في الفصل الثاني عشر من كتابه انطلاقا من الصفحة 219 في سياق حديثه عن حل أوغسطين لإشكالية معرفية أفلوطينية لا داعي للدخول في تفاصيلها الآن. ومن بين النصوص التي وجد فيه صورابجي فكرة الكوجيطو عند أوغسطين النص التالي (أدرجه هنا بترجمته الإنجليزية مشفوعة بترجمتي إلى العربية:
“But who will doubt that he lives, remembers, understands, wills, thinks, knows, and judges? For even if he doubts, he lives. If he doubts where his doubs come from, he remembers. If he doubts, he understands that he doubts. If he doubts, he wants to be certain. If he doubts, he thinks. If he doubts, he knows that he does not know. If he doubts, he judges that he ougth not rashly to give assent. So whoever acquires a doubt from any source ought not to doubt any of these things whose non-existence would mean that he could not entertain doubt about anything.” (Augustine, On the quoted in Richard Sorabji Self, 2006, p.219).
“وكل من يشك في كونه يعيش، فهو يتذكر ويفهم ويريد ويفكر ويعرف ويصدرا الأحكام. وعندما يشك من أين جاء شكه فإنه يتذكر. عندما يتشكك، فإنه يفهم أنه يتشكك. عندما يتشكك، فإنه يريد أن يحصل على اليقين. عندما يشك، فهو يفكر. عندما يشك، فإنه يعرف أنه لا يعرف. عندما يشك، فإنها يعرف أنه لا ينبغي له أن يتسرع في القبول. لذلك فإن كل من يكتسب شكا من أي مصدر من المصادر، عليه أن لا يشك في هذه الأشياء التي سيعني عدم وجودها أنها لا يشك في أي شيء”.
يذكر لنا سورابجي معطيات نصية مهمة متعلقة بالكوجيطو الأوغسطيني:
أولا ـ أن حجة الكوجيطو لم تذك في نص واحد معزول من نصوص هذا الفيلسوف، بل في نصوص متعددة ذكر منها: “عن الحياة السعيدة” و”ضد الأكاديميين” و”حرية الإختيار والإرادة” و”مدينة الله”.
ثانياـ رغم أن أوغسطين استعمل صيغة الغائب في النص المقتبس أعلاه بخلاف ديكارت الذي استعمل صيغة المتكلم (مما اعتبره صورابجي غير ذي قيمة كبيرة؛ ص. 219) فإن أوغسطين استعمل صيغة المتكلم في نصوص أخرى …وصيغة المتكلم التي استعملها هي: Si fallor, sum (أنا انخدعت بالشك، إذن أنا موجود)
ثالثاـ أن أوغسطين استعمل فكرة الكوجيطو في سياقات مختلفة، بخلاف ديكارت الذي استعملها فقط لتجاوز التشككية المطلقة. والنص الذي استعمل فيه أوغسطين الكوجيطو لإفحام حجة التشككية المطلقة هو نص <<ضد الأكاديميين>> مما يعني أن استعمال أوغسطين للكوجيطو هو أشمل وأوسع من استعماله عند ديكارت.
خلاصة: أوغسطين هو واضع فكرة الكوجيطو، أما ديكارت فهو مجرد ناقل لهذه الفكرة.
المصدر : عبدالله الحلوي / تيفسا بريس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق